هذا المقال بقلم بشار جرار، متحدث ومدرب غير متفرغ مع برنامج الدبلوماسية العامة – الخارجية الأميركية، والآراء الواردة أدناه تعبر عن رأي الكاتب ولا تعكس بالضرورة وجهة نظر شبكة CNN.
سقا الله أيام المناشير.. كنا طلبة في الجامعة يتصيدنا “الحزبيون” عند ازدحام الأقدام على مداخل قاعاتها ومقاصفها لدسّ منشور بين ثنايا “مرجع” زائف لغايات التعريف بموقف أحزابهم وتنظيماتهم التي لا تنتهي انشطارا واستنساخا من قضية ما، غالبا ما كانت من قضايا دولة الجوار الملتهب الآن وحينئذ رغم فارق زمني شارف على عقده الرابع!
في تلك الأيام، اضطررت ولاعتبار المجاملة والفضول، الاطلاع على عجل على فحوى المنشور حتى إذا بان فيه ما لا يدعو للاطمئنان والأمان، سارعت إلى إتلافه شر إتلاف – حرقا لا تمزيقا فقط – وأتبعته بعتاب رقيق للرفيق أو للأخ غير الشقيق بأن ينسى أمري على الأقل لأربع سنوات أتخرج بها من الجامعة إلى الحياة العملية.
لكن جامعيا أميركيا من هارفرد تخصص بعلم النفس والحاسوب مطلع الألفية الجديدة هو مارك زوكربيرغ، لم يخطر بباله ذات يوم أن تتحول أيقونة التواصل الاجتماعي في القرن الواحد والعشرين إلى مثابة منشور خارق للحدود كلها وعابر للقيود جلها بمحتوى لا هو بالتواصل ولا هو بالاجتماعي.
فمع كل موقف جدلي أو حدث جلل، يطفح الفيسبوك أو “الفيس” كما يدلعونه اختصارا في المشرق، بما يسوّد الوجه ويندى له الجبين. وقد بلغ البعض في احتراف الكراهية وخطابها المسيء القميء حدا عجزت عن استشعاره مجسّات مارك لغايات تكريره أو رد أذاه. وبحكم موقعي وعملي، لا أملك حق أو ترف صدّ الرسائل أو حتى تجاهلها كوني معنيّ بحكم اختصاصي بمتابعة تلك الرسائل للتمكّن من دحضها “بالتي هي أحسن”، و”بالموعظة الحسنة” إن لزم الأمر.
أفهم وأحيانا أتفهّم ولا أبرّر، قيام البعض بالتعبير عن إحباطهم أو حتى غضبهم من سياسة ما أو سياسي ما، لكنني أجد صعوبة في تلمّس أي عذر لمبرر جريمة نكراء اقترفتها عصابة إجرامية إرهابية بحق قرويين آمنين عزّل في عمر الزهور. أتحدث هنا -على سبيل المثال لا الحصر- عن مجزرة داعش بحق إخوتنا وأحبتنا الدروز في محافظة السويداء السورية.
ما هالني عبر صفحتي الخاصة على الفيسبوك وإثر تعبيري عن حزني على الضحايا وتنديدي بداعش وأحد منظري فقه التكفير بالجملة والدعوة إلى الذبح بالجملة والمفرّق، هالني ما تلقيت من تقريع بلغ حد الوعيد. الكارثة أن من خرجوا من جحورهم وجلودهم، أعادوا نشر فتاوى هذا الإرهابي بحق إخوتنا الدروز وطوائف أخرى. بطبيعة الحال، قمت باللازم، وهو تبليغ الفيسبوك ومن ثم شطب تعليقات خطاب الكراهية وإلغاء الصداقة “الافتراضية” لهؤلاء الأفاعي والحرباوات.
حتى المرضى لا بل ومرضى السرطان أيضا لم يسلموا من دعاة خطاب الكراهية المتمسّحين بقيم أبعد ما يكونوا عنها كالوطنية والحميّة القومية أو اللهفة الإنسانية. من الأمثلة الصارخة كانت تعليقات التشفّي و”أدعية” عدم الشفاء وزيادة المرض عند بعض منتقدي سياسات رئيس الحكومة الأردنية السابقة هاني الملقي – شفاه الله من سرطان الأحبال الصوتية، وعقيلة الرئيس السوري أسماء الأخرس – شفاها الله من سرطان الثدي. يا لهول ما طفح على منصات التواصل الاجتماعي من مواقف مخجلة بحق. فأي سواد هذا؟ من أين أتى سواد القلوب وبياض العقول هذا؟!
عادت بي الذكريات إلى أرشيف الحرب السورية، فتذكرت المجرم الإرهابي الذي قام بتنفيذ جريمة نكراء بمعلولا التي ما زالت إلى يومنا هذا تتحدث الآرامية – لغة السيد المسيح. ذلك المجرم اسمه “عمار الجمزاوي” من إرهابيي “جبهة النصرة” من مواليد الزرقاء عام ألف وتسعمئة وثلاثة وتسعين “أردني من أصل فلسطيني”. لم يختلف هذا الإرهابي في منطقه وفقهه ومنطلقاته ومسوغاته عن الذين بثوا سمومهم “تشفيا” بأحزان السويداء. ما زلت أذكر أردنيا مسيحيا تساءل بأن كيف أثق بمن كان زميلا أو جارا قطع مئات الكيلومترات ليفجر نفسه بمن يرى أنهم ليسوا على “ملّته وطائفته وشاكلته”.
للقضاء على هذا السواد لا بد من التنقيب في صحارينا الفكرية القاحلة عن آباره الارتوازية الضاربة جذورها في سراب الغلّ والجهل والضلال. فهل فكّر أحد من أين أتت كلمات “يا أولاد محارب” في الفولوكلور الشعبي الغنائي السوري؟ هل تساءل أحد من أين أتى مصطلح “تستكردني” باللهجة المصرية؟ المصطلح الأول يشير إلى سبي بنات الرسول والثاني إلى حكم الشركس والكرد في مصر إبان عهد المماليك.
إن خطاب الكراهية، شأنه شأن العبودية، إما تجفيف منابعها الآسنة النتنة، وإما تحريمها بقوة القانون وإن كانت قوة خشنة “عسكرية” كما كانت الحرب الأهلية الأميركية في أحد أوجهها حيث عرّفت الأمة الأميركية والعالم بأسره الرئيس الأميركي الراحل أبراهم لينكولن بمحرر العبيد.