هذا المقال بقلم بشار جرار، متحدث ومدرب غير متفرغ مع برنامج الدبلوماسية العامة – الخارجية الأميركية، والآراء الواردة أدناه تعبر عن رأي الكاتب ولا تعكس بالضرورة وجهة نظر شبكة CNN.
أتعاطف كثيرا مع كاتب السيرة الذاتية للرئيس الخامس والأربعين للولايات المتحدة دونالد جيه ترامب. أيا كان موقفه معارضا، مؤيدا أو محايدا لن يجد في سجل إنجازاته – حتى ساعة إعداد هذه المقالة – أكثر من الفضائح الإعلامية والمعارك القضائية.
ثمة قاسم مشترك أعظم بين أحدث تلك الفضائح والمعارك، هو التداخل العضوي بين ما هو خاص وما هو عام، فكلاهما بدأ من إحدى الدوائر الداخلية الكثيرة التي تحيط بالرئيس وعائلته وإدارته. دوائر بحكم شكلها الهندسي ودورها الوظيفي متداخلة بالضرورة وأحيانا متقاطعة أيضا وهنا تكمن مشكلة ترامب وأي إنسان يخدم في موقع عام.
لست بصدد الدخول بتفاصيل التفاصيل القضائية لمعارك ترامب مع الموظفة السابقة في البيت الأبيض أوماروسا مانيغولت نيومان وما تلاها بعد أيام من ضربة مدوية يراها خصومه ضربة قاضية عندما أصدر القضاء حكمين متزامنين صادرين عن هيئتين قضائيتين منفصلتين الأولى قضت بإدانة مدير الحملة الانتخابية السابق لترامب – بول مانافورت – بـ8 تهم من أصل 18 تهمة، والثانية اتخذت منحى آخر أكثر خطورة وهو إقرار أحد محامي ترامب السابقين – مايكل كوين (وليس كوهين حيث يلفظ اسم العائلة دون الهاء ولا علاقة لها بالصورة النمطية السائدة في الشرق الأوسط منذ خمسينيات القرن الماضي) إقراره إثر التفاوض مع الادعاء العام عبر محاميه بالتهم الموجهة إليه مخفضا بذلك محكوميته بالسجن من 65 عاما إلى ما بين 3 إلى 5 سنين.
ما جمع بين المتهمين هي في المقام الأول تهم فساد مالي تتعلق بالتهرب والتزوير الضريبيين. الأول يعدّ محاميه لطلب إعادة محاكمته إثر شكاوى بانحياز المحكمة وهيئة المحلفين ضد مانافورت بحكم ارتباطه السابق بترامب، فيما سارع محامي المتهم الثاني لاني ديفيس بالتوصل إلى صفقة مع الادعاء العام متوجها إلى الأمة الأمريكية باستدعاء تمويل عبر منصات التواصل الاجتماعي لحملة أطلق عليها اسم دعم مايكل كوين لقول الحقيقة. والحقيقة التي يدغدغ فيها ديفيس المعروف بولائه لهيلاري كلينتون وزوجها هي تقديم أدلة تكشف ما من شأنه المساعدة في عزل ترامب من الرئاسة.
إدارة ترامب كانت كما اتضح من ردة فعلها متوقعة لتلك المعركتين القضائيتين، فاعتمدت عوضا عن الدفاع استراتيجية الهجوم وعلى أكثر من جبهة. بداية، هرع ترامب كعادته إلى وزير إعلامه المفضل، هو شخصيا وعبر سلاحه الإعلامي المفضل أيضا وهو تويتر الذي يدين له بالفضل في تحقيق اختراقات انتخابية صرعت ببضع كلمات، ساعات من التحليلات التلفزيونية بما فيها تلك المستندة إلى استطلاعات الرأي العام “العشوائية” ودراسات مراكز البحوث “العاجية”. ترامب سارع إلى الطعن في مصداقية ومهنية كوين ناصحا الجمهور الأمريكي بعدم توكيله في أي قضية لأنه محام “كاذب” و”ليس جديرا بالثقة”. هذا المحامي الذي خدم ترامب 10 سنين قال عبر محاميه إنه لا ينتظر خيرا من ترامب وإنه سيرفض “عفوا رئاسيا” ما دام صادرا عن ترامب.
عبر تويتر أيضا، غرّد ترامب قائلا إنه حزين للحكم الصادر بحق مانافورت ومتعاطف معه ومع أسرته كصديق وكأمريكي وطني خدم الكثيرين قبله مشيرا بشكل خاص إلى مثله الأعلى وأيقونة الجمهوريين والمحافظين والإنجيليين الرئيس الراحل رونالد ريغان.
في اليوم التالي سارع فريق ترامب الإعلامي السياسي بقيادة المستشارة التي صنعت نجاحه الانتخابي الباهر كيليين كوناويي إلى ترتيب لقاء حصري خاص مع قناته المفضلة أو لعلها الوحيدة – فوكس نيوز. أبرز ما قاله فيما يخص الجانب القانوني هو عدم ارتكابه أي مخالفة قانونية فيما يخص أموال “شراء صمت” امرأتين هددتاه بفضح علاقة جنسية مع كل منهما خارج إطار رباط الزوجية. فخلافا لما “أوحى” به التسجيل المسرب عن علمه وأمره لكوين بدفع ما مجموعة 280 ألف دولار، يؤكد ترامب لفوكس نيوز أنه علم “لاحقا” بالأمر وأن المال لم يكن من أموال حملته الانتخابية وإنما من “حرّ ماله الخاص”. خبير قانوني في جامعة هارفارد أكد صواب موقف ترامب لكن سجالا إعلاميا بين كوناويي وأحد نجوم سي إن إن – كريس كومو – ما زال حول “كذب” ترامب الذي قال على متن الطائرة الرئاسية قبل أشهر من التسريب الصوتي أن لا علم له إطلاقا بمسألة دفع “هش موني” أي أموال شراء الصمت لنجمتي التعري والجنس ستيفاني كليفورد (اسم الشهرة ستورمي دانييلز) وكارين ماكدوغيل.
القضية الأخرى ذات الدلالة كانت بتلميح ترامب – ردا على سؤال مذيعة فوكس نيوز في برنامجه الأثير “فوكس آند فريندز” الصباحي، تلميح إلى خيار إصدار عفو رئاسي عن مانافورت. أما القضية الأخيرة والأكثر أهمية، فهي تساؤله أين قضية “التواطؤ” مع روسيا في هاتين المعركتين؟ فكلاهما لم يتضمنا أي اتهام أو ذكر من قريب أو بعيد لتورط ترامب أو أركان حملته بمن فيهم مانافورت بمزاعم التواطؤ.
في أقل من 24 ساعة على ذلك سارعت إدارة ترامب وأذرعها الإعلامية بإثارة هجوم أطلق إشارته ترامب في المقابلة الحصرية على وزير العدل جيف سيشينز (الثالث). تساءل ترامب بمرارة عن دوره مقرعا بافتقاره للمهنية والقيادية ومذكرا بموقفه إبان استجواب الكونغرس حول قضية التواطؤ مع روسيا. سيشينز اختار حينها “النأي بنفسه” عن التحقيقات بصفته وزيرا للعدل فيما قام بالرد على حملة ترامب ضده الأخيرة بالقول إن وزارة العدل لن تستدرج في معارك سياسية لا علاقة لها بوظيفة الوزارة كونها وزارة عدل.
ومن أخطر ما لمح لوّح به ترامب، إمكانية إعفاء مدير مكتب التحقيقات الفيدرالي السابق روبرت مولر من مهامه كمحقق مستقبل في قضية التواطؤ. فهل يفعلها ترامب؟ هل يقوم بإصدار عفو عن مانافورت، ويعزل كلا من سيشينز ومولر حارقا ثلاثة أوراق وازنة في لعبة المال والسياسة والصحافة والقضاء في أمريكا “الجديدة” التي يريد ترامب أن يعيد إليها “تاريخها العظيم”؟
أظنه فاعل، وأرجح أن تكون تلك الضربات متلاحقة لا متزامنة لاستثمار كل منها أكثر ما أمكن في معركة “كسر العظام” مع الديمقراطيين بعد 77 يوما من إصدار الحكمين القضائيين المتزامنين بحق مانافورت وكوين.
أحبتنا اللبنانيين يستخدمون في لهجتهم السياسية الإعلامية مصطلح “كباش” في إشارة إلى تناطح السياسيين في معارك تكاد لا تنتهي منذ الحرب “الأهلية اللبنانية” (وما هي بأهلية حقا في نظري ولذلك مقام آخر).
ما أراه أن ترامب الذي لم يتردد بتقديم الكباش تباعا إلى محرقة الهيكل – وكان أكبرها ستيف بانون “حكيم” حملته الانتخابية وأجندته الرئاسية وأسرعها أنتوني ساكراموتشي قيصر الإعلام الذي لم يكمل أسبوعا في البيت الأبيض- ترامب هذا لن يتوانى عن تقديم كبش كبير بحجم سيشينز عضو مجلس الشيوخ الجمهوري المحافظ عن ولاية آلاباما أحد معاقل الجمهوريين والمحافظين والإنجيليين الأمريكيين والذي كان أول من سارع – من قيادات الكونغرس – إلى دعمه في السباق الانتخابي حتى ضد القيادات التاريخية والتقليدية للحزب الجمهوري “كمؤسسة”.
ليس هذا فقط بل ولم يتحرّج ترامب من القول إنه وفي حال عزله من منصبه فإن انهيارا مدويا سيسجل في بورصة نيويورك مشيرا بزهو إلى أن “ثيران” وول ستريت أصبحت تركض ركض الخيول لأطول مدى في تاريخها منذ عام ألف وتسعمئة وتسعين. فمن ينقذ رئاسة ترامب وسيطرة الجمهوريين على الكونغرس؟ أكباشه أم ثيرانه؟